رمضان يمضي فأدركوا أنفسكم
عباد الله، رَمَضَانُ عِندَ كل عَاقِلِ حَصِيفِ، فُرصَةٌ لِلفَوزِ بِالأَجر العَظِيمِ ِ وَنَيلِ ِالثَّوَابِ الجَزِيل، وَبَابٌ وَاسِعٌ -بَل أَبوَابٍ-، يدخل مِنهَا المُوَفَّقُونَ، مِمَّن يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَانًا. صَلَوَاتٌ مَفرُوضَةٌ وَنَوَافِلُ مَسنُونَةٌ، وَقِيَامٌ وَتَبَتُّلٌ وَسُجُود، وَصِيَامٌ وَقِرَاءَةُ قُرآنٍ وَتَدَبُّرٌ، وَذِكرٌ وَدُعَاءٌ، وَزَكَوَاتٌ وَصَدَقَاتٌ وَهِبَاتٌ، وَتَفرِيجُ كُرُبَاتٍ وَقَضَاءُ حَاجَاتٍ، وَتَفطِيرُ صَائِمِينَ وَإِطعَامُ فُقَرَاءَ وَمَسَاكِينَ، وَدَعمٌ لِمَشرُوعَاتِ الخَيرٍ وَالمُسَاهَمَةٌ في أَعمَالِ البِرٍّ، وَصِلَةُ أَرحَامٍ وَإِحسَانٌ إِلى جِيرَانٍ.…… وَإِنَّ المُسلِم الفَطِن، مُشرِق البَصِيرَةِ، حَيّ القَلبِ، يَستَشعِرُ أَنَّ رَمَضَانَ مَيدَانٌ لِلتَّسَابُقِ في الخَيرَاتِ، وَالتَّنَافُسِ في الطَّاعَاتِ، وَسُوقٌ رَابِحَةٌ لاكتِسَابِ الحَسَنَاتِ، وَفُرصَةٌ لِلتَّوبَةِ وَالإِنَابَةِ وَتَغيِيرِ الذَّاتِ، وَمَجَالٌ لِلتَّدَرُّبِ على الأَخلاقِ الحَسَنَةِ وَالعَادَاتِ الجَمِيلَةِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنَ الأَخلاقِ السَّيِّئَةِ وَالعَادَاتِ القَبِيحَةِ.
رَمَضَانُ سَائِرٌ وَلَن يَتَوَقَّفَ لمُتَكَاسِلٍ، وَقَافِلَتُهُ مَاضِيَةٌ لا تَنتَظِرُ، وَمَا هِيَ إِلاَّ أَيَّامٌ قَلائِلُ وَيُعلَنُ هِلالُ العِيدِ، وحينها يَشعُرُ مَن عَمِلَ وَبَذَلَ برضا وَبَهجَةٍ، وَيَمتَلِئُ قَلبُهُ سَعَادَةً وَرَاحَةً، وَيُحِسُّ مَن تَكَاسَلَ وَأَهمَلَ بِحَسرَةٍ تَلتَهِمُ فُؤَادَهُ. وَحَتَّى لا تكُونَ من المتحسرين النادمين، فَاَغتَنِمْ وَقتَك، وَاَنتَبِهْ لِنَفسِك، وخذ الأَمرَ بِجِدِّ وَعَزِيمَةِ، وَلْنَتَذَكَّرْ جَمِيعًا أَنَّ شَهرَنَا مَضَى مِنهُ ثُلُثُاه أَو كَادَ، مَضَى مِنهُ تِسعَةُ عشر يوما وَكَأَنَّهَا سَاعَاتٌ بَل كَأَنَّهَا لَحَظَاتٌ، فَأَينَ أَنتَ؟! وَهَكَذَا الأَيَّامُ تَعمَلُ فِينَا، فَيَا لَخَسَارَةِ مَن لم يَعمَلْ فِيهَا، وَهَكَذَا العُمرُ يَمضِي كَأَنَّهُ سَاعَةٌ... فأَينَ رَجَاؤُكَ الثَّوَابَ وَخَوفُكَ مِنَ العِقَابِ؟! أَلا َتَستَكثِرُ مِنَ الخَيرِ؛ لِتَنَالَ جَنَّةً عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ، فَتَنعَمَ فِيهَا نَعِيمًا لا شَقَاءَ بَعدَهُ؟! وَنَبِيُّنَا – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ في الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ: ” مَن صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ، وَمَن قَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ ” وَيَقُولُ: ” مَن قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِهِ “. ….. فَأَيقِظْ إِيمَانَكَ وَجَدِّدْهُ، وَتَعَاهَدْ قَلبَكَ، وَرَاقِبْ نِيَّتَكَ وَاحتَسِبْ، وَجَاهِدْ نَفسَكَ، وَاصبِرْ وَصَابِرْ وَرَابِطْ، فَلَعَلَّكَ تُرزق الهداية والفلاح، قَالَ تَعَالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]
مَن أَرَادَ الهِدَايَةَ فَعَلَيهِ أَن يُجَاهِدَ نَفسَهُ وَيَبذُلَ الأَسبَابَ، وَيُقبِل عَلَى رَبِّهِ لِيُقبِلَ اللهُ عَلَيهِ، فَفِي الحَدِيثِ القُدسِيِّ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: ” يَقُولُ اللهُ – تَعَالى -: أَنَا عِندَ ظَنِّ عَبدِي بي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَني، ……… “، وإياك والإِعرَاضِ، فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَمَّنِ استَغنَى وَتَوَلَّى، وَفي الحَدِيثِ عَن أَبي وَاقِدٍ اللَّيثيِّ – رَضِيَ اللهُ عَنهُ – أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – بَينَمَا هُوَ جَالِسٌ في المَسجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقبَلَ اثنَانِ إِلى رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرجَةً في الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلفَهُم، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: ” أَلا أُخبِرُكُم عَنِ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ؟! أَمَّا أَحَدُهُم فَأَوَى إِلى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاستَحيَا فَاستَحيَا اللهُ مِنهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعرَضَ فَأَعرَضَ اللهُ عَنهُ “ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
إِنَّ مِن كَمَالِ العَقلِ أَن تَعلُوَ الهِمَّةُ في مَوَاسِمِ الخَيرِ، قَالَ – عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ -: ” المُؤمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلى اللهِ مِنَ المُؤمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيرٌ، اِحرِصْ عَلَى مَا يَنفَعُكَ وَاستَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعجَزْ… ” (رَوَاهُ مُسلِمٌ.) وَإِنَّهُ لَمِن أَعجَبِ العَجَبِ أَن يَعرِفَ المَرءُ فَضَائِلَ شَهرِ رَمَضَانَ، ثم لا تَعلُوَ هِمَّتُهُ وَلا يَزدَادَ حِرصُهُ، وَلَو لم يَكُنْ في رَمَضَانَ إِلاَّ لَيلَةُ القَدرِ الَّتي هِيَ خيَرٌ مِن أَلفِ شَهرٍ، لَكَفَى المُسلِمِ للاجتِهَادِ وَالصَّبرِ، كَيفَ وَرَمَضَانُ كُلُّهُ فَضَائِلُ وَأُجُورٌ وَحَسَنَاتٌ؟! مَن صَامَ رَمَضَانَ وَقَامَهُ وَقَامَ لَيلَةَ القَدرِ إِيمَانًا وَاحتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه، وَبَشَّرَنَا أَنَّ مَن فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثلُ أَجْرِهِ، وَأَنَّ مَن قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيلَةٍ، وَأَنَّ للهِ عُتَقَاءَ في كلِّ يومٍ وَلَيلةٍ، ولِكُلِّ عَبدٍ دَعوَةٌ مُستَجَابَةٌ، بِكُلِّ ذَلِكَ وَرَدَتِ الأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ وَالحِسَانُ، فَأَينَ أَهلُ اليَقِينِ وَالإِيمَانِ؟!
إِنَّ الخَسَارَةَ الَّتي لا تَعدِلُهَا خَسَارَةٌ، أَن تُفتَحَ كُلُّ هَذِهِ الأَبوَابِ من الخير، ثم يَخرُجَ رَمَضَانُ عَلَى عَبدٍ وَلم يُغفَرْ لَهُ فِيهِ، كما في الحديث أن النبي صَعِدَ المِنبَرَ فَقَالَ: ” آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ ” ولما سُؤل عن ذلك قَاَل: ” إِنَّ جِبرِيلَ أَتَاني فَقَالَ: مَن أَدرَكَ شَهرَ رَمَضَانَ فَلَم يُغفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبعَدَهُ اللهُ. قُلْ آمِينَ فَقُلتُ آمِينَ ” إلى آخر الحديث.
من فضائل العشر الأواخر من رمضان: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من شهر رمضان، ما لا يجتهد في غيرها (مسلم، عن عائشة)، و كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها (البخاري، ومسلم)، وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: ”كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره ” ( البخاري، ومسلم) وزاد مسلم وجَدَّ وشد مئزره . ” وشد مئزره” كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها زيادة على المعتاد، ومعناه التشمير في العبادات. و” أحيا الليل” أي استغرقه بالسهر في الصلاة وقراءة القرآن وتدبر معانيه، وطلب المغفرة والرضوان. ومن فضائلها أن فيها ليلة القدر، قال الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين. فيها يفرق كل أمر حكيم} (سورة الدخان الآيات: 1-6) أنزل الله القران الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها مباركة … وهي غالب الظن تتنقل بين ليالي العشر وخاصة الليالي الوترية فيها فالتمسوها وتحروها في العشر الأواخر كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) (حديث عائشة عند البخاري، وحديث ابن عمر عند مسلم، وهذا لفظ حديث عائشة). وفي أوتار العشر (الليالي الفردية) آكد، لحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) (رواه البخاري) ….. وأول ليالي العشر غداً إن شاء الله وقد ثبت وقوع ليلة القدر في مثلها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
وأخيراً أظنكم لا تحتاجون وصية مني بإخواننا في غزة ونحن في في رمضان وهم في هذا البلاء العظيم، فليس اقل من المساعدة بالمال والدعاء لهم، وهناك مؤسسة ستجمع اليوم لأهل غزة فلا تبخلوا على أنفسكم في هذه الأيام الفاضلة.