جبر الخواطر … من العبادات المنسية
أما بعد: إن تطيب الخواطر عبادة من أجل العبادات المنسية في مجتمعاتنا في زمن كثرة فيه الأنانيات والاهتمام بالذات والانهماك في الشهوات… قال سفيان الثوري: “ما رأيتُ عبادةً أجل وأعظم من جبر الخواطر” ….. فاجعل لسانك بلسما فيه الشفا ……لا مشرطا يدمي القلوب ويوجع
فتزيل الهموم عن الناس أو تهون مصيبتهم، وقد يكون جبر الخاطر بالنصيحة أو الابتسامة أو الصدقة أو كلمة طيبة أو تيسير خير أو رفع حرج، وجبر الخواطر من الأخلاق والمعاملات الإسلامية التي يجب أن يتحلى بها كل مسلم وكل شخص عمومًا بعيد عن ديانته، ومن يجبر الخواطر فهو بالتأكيد شخص شهم ومعدنه أصيل نبيل… والخاطر هو القلب، وعدم كسره خلق عظيم، ولو تأملنا فسوف نجد أن أغلب أحكام ديننا قائمة على جبر الخواطر، فنحن نقدم واجب العزاء لجبر خاطر أهل المتوفي، نزور المريض لجبر خاطره، ندفع دية الميت لجبر خاطر أهله، حتى السلام والابتسامة، وغير ذلك كثير في ديننا.
ومراعات المشاعر من تعاليم الإسلام كما أوصى رسول الله ﷺ قَالَ: ( إِذَا كُنْتُمْ ثَلاثةً فَلا يَتَنَاجى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى تَخْتَلِطُوا بالنَّاسِ؛ مِنْ أجْلِ أنَّ ذَلكَ يُحزِنُهُ) متفقٌ عَلَيْهِ.
جبر الله تعالى خواطر عباده: إنها من صفات الله تعالى فمن أسمائه “الجبار” وأحد معانيه “الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ”، والجبار من أوصافه نوعان: جبر الضعيف وكل قلب ذا كسرة … والثاني جبر القهر بالعز الذي لا ينبغي لسواه من إنسان
وفي القران الكريم صورا عديدة لجبره جل جلاله للخواطر، منها على سبيل المثال:
جبر خاطر يوسف عليه السلام: لما اجتمع إخوة يوسف على رميه في الجب، أراد الله تعال أن يجبر خاطره فاعلمه أنه سيلتقي بهم ويخبرهم بفعلتهم، فإلقاء هذا المعنى في نفس يوسف كان جبراً من الله لخاطر يوسف قال تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (يوسف: 15)
وجبر خاطر أم موسى عليه السلام: فألقى في روعها وقلبها أنه سيعود ويصطفيه قال تعالى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 7)
وجبر خاطر النبي ﷺ: ومن ذلك عندما أخرجه قومه من مكة حزن النبي ﷺ فأخبره سبحانه أنه سيرده إليها مرة ثانية فقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ (القصص:85)، ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ [الضحى: 5]، وانظر لروعة العطاء المستمر في هذه الآية حتى يصل بالمسلم لحالة الرضا، فهذه الآية رسالة إلى كل مهموم، وتسلية لصاحب الحاجة.
جبر خواطر من حضر من غير الورثة: فأمر بالصدقة عليهم إذا حضروا القسمة فقال سبحانه ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (النساء: 8)
ومن جبر وتطيب خاطر المرأة المطلقة أن أوجب لها المتعة فقال سبحانه: ﴿وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 241]، وقال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ (الأحزاب: 49) لجبر قسوة الطلاق وتطييب قلوبهن.
النبي ﷺ يجبر الخواطر: ومن ذلك جبر خاطر جابر –رضي الله عنه– لما استشهد والده رضي الله عنهما ولم يترك له مال بل ترك دينا وترك له أخوات فاجتمع على جابر رضي الله عنه هم فراق والده وهم الدين وهم الأخوات وشاهده النبي ﷺ فوجده حزينا فجبر خاطره لما لَقِيَه، فَقَالَ: يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قَالَ: أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللهُ بِهِ أَبَاكَ؟) قَالَ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: مَا كَلَّمَ اللهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ..) (ابن ماجه والترمذي؛ (صحيح)
ولجبر الخواطر ثواب عظيم من الله فقديماً قالوا: من سار بين الناس جابرًا للخواطر، أدركه الله في جوف المخاطر، وتطييب الخواطر من مكارم الأخلاق، ومن صفات اﻷنبياء والصالحين، وإنها لعبادة جليلة.
الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه: من سار بين الناس جبرا للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (صاحب المعروف لا يقع؛ فإن وقع وجد متّكًا) ومع معية الله فإن رحمة الله سبحانه وتعالى تنتظر عباده المُحسنين الذين يجبرون الخواطر، حيث يتجاوز الرحمن عن عثرات جابر خواطر عباده المُعْسرين، قَالَ رَسُولَ اللهِ ﷺ: ” كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا، فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا “. قَالَ: ” فَلَقِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ” (البخاري ومسلم)
وأخيرا إياكم وكسر الخواطر فإنها ليست عظاما تنجبر بل هي أرواح تقهر وقلوب تكسر… فكم نحتاج أن نحيي هذه العبادة وهذا الخلق في في حياتنا … بين الزوج والزوجة.. وبين الأب والابن.. بين الأخ وأخيه.. في حياتنا مع بعضنا مع الأصدقاء والمعارف.. مع القريب والغريب.. مع الجار والبعيد.. مع المسلمين وحتى مع غير المسلمين….